
د. جهاد طاهر بكفلوني
اللائق به ويستضيف الحقيقة اقتناعاً راسخاً منه أنها لا بد أن تظهر على الملأ بوجهها المشرق النضر مهما حاول أعداؤها إلقاء حجب النسيان عليها وتركها سجينة في مجاهل الضياع لأنهم على يقين أن خروجها سافرة في وضح النهار سيميط اللثام عن مخازيهم ويكشف معدنهم الرخيص.
هذا الموقف المشرف للرئيس (كارتر) تجلى عندما أخرج إلى النور كتابه (فلسطين: السلام وليس الفصل العنصري) عالماً أنه بفعلته هذه ستقترب من عش يزخر بالدبابير التي ستثور عليه إذا اقترب لكنه لم يكترث بذلك.
وقد نسأل هل كان جاهلاً بحجم الحقد الإسرائيلي الذي سينصب عليه أم لم يدر في خلده أن الهجمة التي بدأت منذ أن اشتم الصهاينة رائحة صدور الكتاب وتسرب إليهم ما حوى بين دفتيه ستكون على هذه الدرجة من الضراوة والسعار?!.
بصرف النظر عن تلقف الجواب أو الاقتراب من شاطئه فإن الكتاب ينضم إلى الكتب الكثيرة التي عرت (إسرائيل) من الداخل وأظهرت للعالم وجهها القبيح الذي استنزفت موارد مالية وإعلامية هائلة في إخفاء معالمه المرعبة وإبرازه وجهاً طبيعياً, لكن جهودها المضنية باءت بالفشل وظلت (إسرائيل) في نظر العالم كياناً عنصرياً قائماً على استلاب حقوق أبناء الشعب العربي الفلسطيني والتنكيل بهم لإسكات جذوة الحق المشتعلة في صدورهم هذه الجذوة التي لن تخمد حتى ينتزعوا حقهم المغتصب وينجحوا في إقامة دولتهم الحرة المستقلة فوق ترابهم الوطني.
هذا الكتاب يعد وثيقة في غاية الأهمية لأن مؤلفه شغل منصب الرئاسة في الدولة العظمى الأولى في عالم اليوم, وقد ظلت سياستها منذ قيام ( إسرائيل) قائمة على تقديم الدعم اللامحدود لهذا الكيان العنصري البغيض.
لقد تجاوز (كارتر) كما يرى اللوبي الصهيوني داخل الولايات المتحدة الأميركية الخطوط الحمراء كلها وحطم إشارات المرور وقلب أنظمة السير رأساً على عقب, لأن (إسرائيل) كما يرى هذا اللوبي منزهة عن الخطأ معصومة عنه وهي فوق الانتقاد فكيف غفل مؤلف الكتاب عن هذه الحقيقة?!.
يحق لها أن ترتكب الجريمة تلو الجريمة, وأن تحرق الأراضي الزراعية وتسرق المياه العربية وتمتلك السلاح النووي الموجه إلى أبناء الأمة العربية, تفعل ذلك في وضح النهار لأنها مطمئنة إلى حجم الدعم الأميركي الهائل لها ولا يحق لأحد أن يشير ولو من بعيد إلى ما تقوم به من سلوك إجرامي فاضح!.
هذا هو المنطق الإسرائيلي الذي قطع علاقته بالمنطق والعقل والعقلانية منذ زمن بعيد.
الكتاب سيكون بين أيدي المهتمين بملف الصراع العربي - الإسرائيلي الذي تصر (إسرائيل) بسلوكها العدواني المزمن على أنه صراع حدود وليس صراع وجود وهذه الحقيقة يجب ألا تغيب عن عقول وقلوب جيلنا الحالي والأجيال الآتية وأن يتم التعامل مع هذا الملف انطلاقاً من هذه الحقيقة.
وللتذكير بمدى قبح الصورة التي جلاها (كارتر) عن (إسرائيل) فحبذا لو تم التوقف عند عبارات يجب ألا يمر بها القراء مرور الكرام, وهي عبارات تشير إلى تضييق الخناق من قبل اللوبي الصهيوني على السياسة والساسة في الولايات المتحدة لمنع نشر جوهر (إسرائيل) العدواني في العالم, فكارتر يؤكد أن الفلسطينيين يتعرضون لقمع أشد وأبشع من ذلك القمع الذي تعرض له السود إبان عهد الفصل العنصري (الإبارتيد) في جنوب إفريقيا, وحسبك بهذا الوصف إجلاء لصورة (إسرائيل) المعادية للإنسان في كل زمان ومكان!.
ولم يدخر (كارتر) جهداً في التأكيد على قناعته بكل كلمة وردت في ثنايا كتابه ولا سيما بعد أن أقامت (إسرائيل) الدنيا ولم تقعدها عليه إثر صدور الكتاب عندما عزا الامتناع الشديد عن انتقاد السياسات الإسرائيلية في الولايات المتحدة إلى النشاط الهائل للوبي الصهيوني وغياب أصوات معترضة فاعلة.
وأمام إصراره على الصدع بما أمره الحق والإصغاء إلى نداء الضمير لم تجد إسرائيل أمامها من وسيلة لتشنع عليه إلا إشهار عصاها الغليظة القديمة الجديدة (معاداة السامية), فلم يكن منها إلا أن أوعزت إلى أعضاء في اللوبي الصهيوني ليعزفوا على هذا الوتر المهترىء الممجوج الذي سئمه العالم.
إنها التهمة المعلبة الجاهزة التي وضعتها (إسرائيل) في الثلاجة منذ أمد بعيد وتسارع إلى إخراجها كلما وجدت نفسها محشورة في زاوية ضيقة ملاحقة من قبل وقائع التاريخ التي لا تخشى كيدها وحقدها الأعمى على التاريخ والحقيقة.
وإمعاناً منها في الإساءة إلى مؤلف الكتاب فقد بادرت إلى تحريك ذيولها فها هو (كينيث شتين) المدير السابق لمركز كارتر يعلن قطيعته مع (كارتر) لاكتشافه أن الكتاب يزخر بالأخطاء, ولا ريب أن اكتشافه هذا تم في مختبر صهيوني وبأجهزة اختبار صهيونية.
أما المبعوث الخاص السابق إلى الشرق الأوسط (دينيس روس) فقد دخل إلى مخبر أكثر تطوراً ليخرج باكتشاف مبهر بزعمه أن (كارتر) نشر خرائط في كتابه ليست ملكاً له.
هذا النفخ في قربة مثقوبة لم يفد (إسرائيل) ولن يفيد كل متعاطف معها داخل الإدارة الأميركية, والمنطق يقول إن هذا الكتاب سيكون قنديلاً يضيء معالم الطريق أمام أولئك الذين سيقيمون في البيت الأبيض بعد الرئيس (جورج بوش) المنحاز حتى نقي عظامه إلى جانب (إسرائيل), لعلهم يكتشفون أن مصلحة بلادهم الحقيقية ليست في استعداء العالم كله كرمى لعيني (إسرائيل) التي لم تجر للولايات المتحدة إلا كره الشعوب ونقمتهم عليها بل في الوقوف إلى جانب الحق الذي سيجيء ليزهق الباطل سواء شاءت (إسرائيل) أم لم تشأ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق